المؤمن الحقيقي… إنسان يُشمّ قبل أن يُسمَع (من الثوم إلى النعمة: ماذا تفوح حياتك؟)
المؤمن الحقيقي لا “يرشّ” المسيح على حياته كعطر، بل يسمح للمسيح أن يتشرَّب في أعماقه لدرجة أنّ حياته كلّها تصبح رائحة خاصة، تُشمّ قبل أن تُسمَع.
نحن نعرف من خبرتنا اليومية أن ما ندخله إلى أجسادنا لا يبقى محبوسًا في الداخل؛ من يأكل ثوماً أو بهارات قوية، تصير رائحة جسده وعرَقه ونَفَسه شاهدة على ما أكله، حتى لو استحمّ وغيَّر ملابسه. الرائحة هنا ليست قرارًا واعيًا، بل نتيجة تلقائية لما امتلأ به الجسد. هكذا بالضبط يتكلم الكتاب المقدّس عن الحياة المسيحية، ليس كطبقة دينية نضعها فوق حياتنا، بل كـ”رائحة” تنطلق من داخلنا لأننا ممتلئون بالمسيح نفسه.
بولس الرسول يكتب لتلاميذ المسيح قائلاً: «لِأَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلزَّكِيَّةُ لِلَّهِ فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي ٱلَّذِينَ يَهْلِكُونَ» (٢ كورنثوس ٢: ١٥)، فيشرح مفسّرون أنّ الفكرة ليست أننا ننشر “جوًّا مسيحيًا لطيفًا”، بل أنَّ المسيح نفسه هو الرائحة، وهو الذي يفوح من شخصيتنا حين يتملّك علينا من الداخل، فيصير حضورنا في العالم كأنفاسه هو خارجة من خلالنا. وفي موضع آخر يصف بولس محبة المسيح الباذلة بأنها «قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢)، أي أنَّ طريق المحبة والتضحية ليس مجرّد أخلاق عالية، بل حياة تقدَّم لله كرائحة سرور، كأنها بخور حقيقي يصعد أمامه.
هذه اللغة الرمزية عن “الرائحة” ليست تجميلاً بلاغيًا جماله في الكلمات فقط؛ فهي تحمل معنى عميقًا: الرائحة لا يمكن أن تُفصَل عن مصدرها. لا يمكنك أن تشمّ خبزًا طازجًا دون وجود خبز حقيقي، ولا يمكنك أن تشمّ عطراً من غير قنينة أو جسم مشبّع به. لذلك حين يقول الكتاب إننا رائحة المسيح، فهو يفترض ضمنيًا أن المسيح نفسه ساكن في الداخل، وأن حياتنا متشرّبة بحضوره، لا نضعه أحيانًا وننزعه أحيانًا أخرى بحسب مزاجنا.
ومن المدهش أن العلم المعاصر يؤكّد بطريقته ما يقوله الكتاب بصورة روحية. أبحاث كثيرة في علم النفس تتكلم عن “الأصالة” (Authenticity)، أي أن يعيش الإنسان منسجمًا مع ما يؤمن به في الداخل، وتظهر هذه الدراسات أن الأشخاص الأكثر صدقًا مع ذواتهم، والذين لا يلبسون أقنعة اجتماعية طوال الوقت، يتمتّعون بصحة نفسية أفضل، وبشعور أعلى بالمعنى والرفاه الداخلي. كأن هذه الأبحاث تقول لنا بلغة علمية حديثة: حين يكون الداخل حقيقيًا، ينعكس ذلك حتمًا إلى الخارج، ويستحيل أن تبقى الحياة مجرّد “مكياج سلوكي” أو “برفان روحي” مؤقت.
الأمر لا يقف عند الصحة النفسية الفردية؛ فهناك أبحاث أخرى تدرس كيف تنتقل المشاعر والسلوكيات بين الناس، كما لو كانت “عدوى عاطفية” تؤثر في أجواء المجموعة كلها. دراسات عن التعاطف والسلوك المُحسِن (prosocial behavior) عند الشباب تُظهر أن مستوى التعاطف الصادق يرتبط بشكل واضح بزيادة الاستعداد لمساعدة الآخرين وبناء علاقات أكثر دفئًا وأمانًا. هذا يعني أن “رائحة قلبك” لا تبقى حبيسة صدرك، بل تنسكب على من حولك: إن كنت ممتلئًا خوفًا وحقدًا، تفوح من حديثك نظراتك ونبرتك رائحة توتر وحذر؛ وإن كان قلبك سكنى للمسيح، تخترق محبته الجوّ من حولك دون أن تضطر لشرح لاهوت معقّد أو وعظ طويل.
هنا نفهم لماذا يربط الكتاب بين رائحة المسيح وبين طريق المحبة والبذل، لا بين الرائحة وبين الشعارات الروحية. يشرح بعض اللاهوتيين أن المسيح حين قدَّم نفسه “ذبيحة رائحة طيبة لله” لم يكن يقدِّم رائحة لحم محترق تسرّ الله، بل طاعة كاملة، ومحبة حتى الموت، وسخاء كامل الذات، وهذه هي الرائحة التي تُسَعِد قلب الآب وتغيّر مصير العالم. فإذا كان هذا هو المسيح، والروح القدس يطبع فينا صورة المسيح، فالرائحة التي يفترض أن تفوح منّا ليست رائحة تدين أو تعالٍ أو برّ ذاتي، بل رائحة إنسان يُحبّ، يغفر، يحمل وجع الآخرين، يضحّي براحته، ويظلّ ثابتًا على الحق.
لو تأملنا حياتنا بصدق، سنكتشف غالبًا أننا نتعامل مع الروحيات كما نتعامل مع العطور: نختار المناسبات الخاصة لنرشّ شيئًا له “رائحة روحية جميلة” أمام الناس. في الكنيسة، في الخدمة، أمام جماعة معينة… ننتقي كلماتنا، نضبط انفعالاتنا، نضع أفضل صورة “مسيحية” ممكنة. لكن هذه الصورة تبقى خارجية إذا لم يكن هناك تغيير حقيقي في الداخل. العطر الخارجي يُخفي الرائحة الحقيقية لفترة، لكنه لا يغيّر طبيعة الجسد؛ أمّا إن تغيّر “طعام القلب”، فسيتغيّر ما يفوح من حياتنا حتى لو نسينا أن نرُشّ أي شيء.
المسيح نفسه يتكلّم كثيرًا عن الداخل قبل الخارج: يشبّه الفريسيين بـ “قبور مبيّضة من الخارج، لكنها من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة”. الصورة قاسية، لكنها صادقة: ممكن أن تبدو حياتك من الخارج منظمة، كلمتك مطعّمة بآيات، مشاركاتك على فيسبوك وإنستغرام روحية، لكن داخلك مليء بالخوف، المرارة، الغيرة، السخط. في هذه الحالة، مهما رششت على نفسك “آيات وشعارات”، ستظل الرائحة الحقيقية التي يلتقطها الحس الروحي عند من حولك رائحة اضطراب لا سلام، وسيشعر الناس – حتى دون أن يوعوا ذلك – أن هناك تناقضًا بين ما تقول وما تشعّ.
في المقابل، الشخص الذي يسمح للروح القدس أن يفتّش قلبه، وينقّيه، ويغرس فيه ثمار الروح، قد لا يكون خطابه بليغًا ولا ثقافته لاهوتية عميقة، لكنَّ رائحة حياته تقنع أكثر من خطب طويلة؛ لأن المحبة الحقيقية تُشَمّ قبل أن تُسمَع. يمكن أن يخطئ هذا الشخص في التعبير، أن يتلعثم في الصلاة العلنية، لكن حين تجلس معه تشعر براحة غريبة، كأنّ شيئًا فيك يتنفّس، وكأنّ الجوّ من حوله مُشبَع بأكسجين روحي لا تعرف أن تشرحه، لكنه حقيقي. هذه هي “رائحة المسيح” التي يتكلم عنها بولس: «ٱلرَّائِحَةُ الزَّكِيَّةُ لِلْمَسِيحِ» التي تُدرك بين الذين يخلصون والذين يهلكون.
يبقى السؤال العملي: من أين تبدأ هذه الرائحة؟ الجواب البسيط – لكن العميق – هو أن الرائحة تتبع الغذاء. إن كنت تملأ عقلك وقلبك طوال اليوم بخوف الأخبار، وسموم مواقع التواصل، وحوارات مليئة بنميمة وغضب، فطبيعي أن تفيض حياتك بما شربته؛ وإن أردت أن تفوح منك رائحة المسيح، فلابد أن يتغيّر “نظامك الغذائي الروحي”: وقت حقيقي في حضوره، لا مجرّد قراءة سريعة لفقرة؛ حوار صادق معه عن جروحك وغضبك، لا ترديد عبارات محفوظة؛ مواجهة مع خطيتك بدل الهروب في التبرير؛ خروج عملي من ذاتك نحو الآخر في محبة وخدمة. حينها، حتى صمتك سيصبح رسالة، ووجودك نفسه سيصير عطرًا.
ربما أجمل صلاة يمكن أن يرفعها المؤمن في ضوء هذا كله ليست: “يا رب استعملني بقوة عظيمة”، بل: “يا رب، غيّر رائحة قلبي قبل أن تستعمل فمي؛ اجعلني أكون، قبل أن أتكلّم؛ اجعل من حياتي بخورًا هادئًا، يسبح في هواء هذا العالم المتعب، فيشمّ الناس فيّ شيئًا منك أنت، لا استعراضًا دينيًا مني أنا”. حين تُستجاب هذه الصلاة، لن تحتاج أن تقنع أحدًا بأنك مؤمن حقيقي؛ لأن رائحة الداخل ستتكفّل بالباقي.
سلام ومحبة
د. مازن نوئيل

اترك تعليقاً