الفحشاء كصورة لانقلاب داخلي (الجزء الأول)

قد يبدو غريبًا أن بولس الرسول في رومية 1 يصف لحظة مأساوية جدًا: الله يترك الإنسان لنفسه. ليس عقابًا نازلًا من السماء، بل عقابًا أعمق: أن ينسحب الله من قلبك، ويتركك تمشي وراء شهواتك.

“وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء… لذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلى النجاسة” (رومية 1:22–24).

الصورة هنا مرعبة: الإنسان يعرف الحق، يعرف أن هناك حكمة إلهية أعظم من عقله، ومع ذلك يختار أن يعبد المخلوق بدل الخالق. فيتحوّل قلبه منقدًا نحو شهوة لا تشبع، بل تزيده عطشًا وخرابًا.

بولس يتحدث بصراحة عن ذكر مع ذكر، وعن النساء أيضًا اللواتي استبدلن الاستعمال الطبيعي بما هو ضد الطبيعة. ليس كقضية اجتماعية أو مجرد “خطيئة جسدية”، بل كإعلان صارخ أن القلب البشري حين ينفصل عن الله، ينقلب ضد نفسه. الفعل هنا ليس سوى تجسيد لضياع أعمق: رفض الله والتمرد على نظامه للحياة.

ولكن… ليست القصة عن “الآخرين” فقط

الخطورة في النص أن بولس لا يوجّه الكلام لمجموعة صغيرة من الناس بينما البقية أبرياء. بالعكس، النص يتوسّع ليقول إن الإنسان حين يترك الله يُسلم إلى:

الطمع

القتل

المكر

الغيبة

الكبرياء

ثم تأتي الآية التي تصدم:

“ليس فقط الذين يفعلون، بل الذين يُسرّون بالذين يعملون” (رومية 1:32).

أي أن الخطية لا تقتصر على الفعل الجسدي، بل تمتد إلى الموافقة والسرور والمتابعة.

وهنا ندخل في واقعنا اليوم: ألسنا نشترك عندما نتابع صفحات إباحية؟ ألسنا نُسرّ بالشر حين نضحك على فيديوهات تهين قدسية الجسد أو نشارك محتويات تُهين إنسانًا آخر؟

التجربة الحديثة مع الإنترنت جعلت “الفرجة” أخطر من الفعل أحيانًا. الملايين لا يفعلون، لكنهم يستهلكون. كأنهم يجلسون في المدرجات ويصفقون، بينما روحهم تتآكل من الداخل. بولس كان سابقًا لعصره حين أشار أن من “يسرّ” بالشر ليس بعيدًا عن دائرة الحساب.

دعوة للحكمة

القضية إذن ليست عن “هم” فقط، بل عن نحن. كل واحد يحتاج أن يسأل نفسه:

هل أعيش بعقل سلّمني الله له، أم بعقل أسلمتُه أنا للشهوة؟

هل أمارس الحكمة التي تأتي من فوق، أم أزعم أني حكيم بينما أعيش في الجهل؟

النص في رومية 1 لا يريد أن يرعبك، بل أن يوقظك: أن تكون حكيمًا، أن تراجع ما تستهلكه، ما تفرح به، وما تتغذى عليه داخليًا.

الخلاصة

الخطر ليس فقط في ارتكاب الفعل، بل في المشاركة غير المباشرة، في السرور بالشر ولو من بعيد. بولس يضعنا أمام مرآة: كل واحد مهدد أن يتحول عقله إلى “عقل مرفوض” إذا اختار أن يعيش بلا الله.

لكن الخبر السار أن نفس الله الذي “يسلّم” هو نفسه الذي يعيد ويسترد حين نرجع إليه. الحكمة الحقيقية هي أن نعود للمصدر، للحق الذي يحررنا.

سلام ومحبة

د. مازن نوئيل


التعليقات (
0)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Select the fields to be shown. Others will be hidden. Drag and drop to rearrange the order.
  • Image
  • SKU
  • Rating
  • Price
  • Stock
  • Availability
  • Add to cart
  • Description
  • Content
  • Weight
  • Dimensions
  • Additional information
Click outside to hide the comparison bar
Compare
Back to top