لقمة الرحمة: بين المائدة والسرّ

عندما يجتمع الناس في بيت العزاء، كثيرًا ما نرى “لقمة الرحمة” تُقدَّم. على السطح، قد تبدو مجرد عادة اجتماعية: طعام للمعزين. لكن لو رجعنا للأصل الروحي، نكتشف أنها ليست مجرد مائدة للأجساد، بل رمز أعمق بكثير: مائدة للنفوس الجائعة للرجاء.

1. الأصل الروحي

في التقليد المسيحي، المائدة دائمًا مرتبطة بالرجاء والقيامة. المسيح نفسه يقول:

“هَا أَنَا ذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ، إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي”
(رؤيا 3:20)

المسيح يربط “العشاء” باللقاء، وبالحضور المشترك. إذًا، لقمة الرحمة ليست لإشباع الجسد فقط، بل علامة على حضور المسيح وسط الألم.

2. البعد النفسي

علم النفس يقول: الأكل الجماعي ليس عن الطعام فقط، بل عن الأمان المشترك. الباحث Abraham Maslow في هرمه للاحتياجات، يوضح أن المشاركة الاجتماعية تُسكّن القلق وتعيد الإحساس بالانتماء.

فاللقمة هنا تعمل كـ”لغة صامتة” تقول: أنت لست وحدك في موت أحبائك.

لكن الخطر يبدأ حين تتحول من لقمة عزاء إلى وليمة عادة. بدل أن تكون لغة رجاء، تصبح مجرد طقس اجتماعي بلا روح.

مع مرور الوقت، صارت بعض التعازي تُقاس بـ”حجم المائدة” أكثر من “عمق الرجاء”. بدل أن يسأل الناس: “كيف نصلي مع العائلة المفجوعة؟”، يسألون: “عن نوعية الطعام، المكان والقاعة”.

وهنا حصل الانفصال: الرمز انفصل عن معناه. كما يقول عالم النفس Viktor Frankl:

“أعظم مأساة للإنسان هي أن يفقد المعنى.”

لقمة الرحمة فقدت معناها حين صارت مجرد طعام.

٣. كيف نستعيد الجوهر؟

إعادة المعنى: اللقمة يجب أن تكون علامة على مشاركة الألم، لا استعراض الكرم.

بدل المآدب الكبيرة، فلنحوّل اللقمة إلى بذرة عطاء. أي أن ما يُصرف على الاستعراض يمكن أن يتحول إلى مساعدة فقير أو محتاج باسم المتوفى. هكذا تعود اللقمة لتصير “لقمة رحمة” حقًا.

الغريب العجيب أن المسيحية بدأت كلها بلقمة صغيرة: كسر خبز في علية صغيرة. ومن هذا الكسر انطلقت حياة جديدة للعالم كله.

فكيف صرنا نحول “لقمة الرحمة” إلى جبل من الطعام بينما رمزها الأصلي هو بضع فتات مملوءة بالقيامة؟

الخلاصة

لقمة الرحمة ليست تقليدًا اجتماعيًا بل دعوة لوليمة الرجاء:

  • ولِيمة تقول أن الموت ليس النهاية.
  • مشاركة تُعيدنا إلى الجماعة.
  • ذكرى تُنقلنا من عادة اجتماعية إلى خبرة قيامة.

ربما أغرب ما يمكن أن نكتشفه هو أن اللقمة الحقيقية ليست على الطاولة، بل في القلب: حين نأكل معًا الرجاء، ونشبع من حضور الله في وسط الألم.

“طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ”
(متى 5:4)

سلام ومحبة

د. مازن نوئيل


التعليقات (
0)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Select the fields to be shown. Others will be hidden. Drag and drop to rearrange the order.
  • Image
  • SKU
  • Rating
  • Price
  • Stock
  • Availability
  • Add to cart
  • Description
  • Content
  • Weight
  • Dimensions
  • Additional information
Click outside to hide the comparison bar
Compare
Back to top